سليمان بن طوبال، المدعو “لخضر” و”عبد الله”، المولود بمدينة ميلة عام 1923 بدأ نضاله السياسي بصفوف حزب الشعب الجزائري وعمره لم يتجاوز بعد السابعة عشر. ناضل ضد الواقع الاستعماري المفروض في الأربعينيات، لينخرط في الطلائع الأولى للمنظمة شبه العسكرية “أوس” (المنظمة الخاصة) منذ تأسيسها، خلال المؤتمر الأول بحركة انتصار الحريات الديمقراطية، التي كانت الواجهة القانونية لحزب الشعب السري، في حين كلفت “أوس” الفتية بالتحضير للعمل العسكري، قصد الإطاحة بالاستبداد الاستعماري والتمكين للشعب الجزائري من التمتع بالحرية والاستقلال. وكان نشاط بن طوبال في المنظمة كثيفا، حسب شهادات رفاقه، فقد كان لا يحب التكلم عن نفسه. وعندما اكتشف البوليس الاستعماري أمر المنظمة الخاصة، لم يكن بن طوبال من بين الـ363 مناضلا الذين ألقي عليهم القبض وعذبوا وحوكموا سنة 1951 و.1952 وكان أيضا من الرافضين لنظرية المؤامرة التي تبنتها مجموعة من السياسيين لحركة انتصار الحريات الديمقراطية (المركزيون قبل انقسام الحزب سنة 1954)، الذين طلبوا من مناضلي “أوس” المبحوث عنهم تسليم أنفسهم إلى البوليس. وتمكن الفقيد بن طوبال من الاختفاء في جبال الأوراس مع عدد من المناضلين المبحوث عنهم، حيث لجأ إلى هناك لمواصلة التدرب والتحضير مع المرحوم رابح بيطاط وحباشي، والمناضلين مشاطي وبرجم. وفي الأوراس، احتك بمناضلين كبار آخرين، منهم مصطفى بن بولعيد، بشير شيحاني، عاجل عجول… إلخ.
في جوان 1954 بعد فشل مجموعة اللجنة الثورية للوحدة والعمل في توحيد حركة انتصار الحريات الديمقراطية، شارك سي لخضر في اجتماع لجنة الـ22 بالجزائر العاصمة، وكان أحد مفجري الفاتح نوفمبر بالولاية الثانية، إلى جانب القادة ديدوش مراد رحمه الله ونائبه زيغود يوسف، وكان بن طوبال مسؤولا عن منطقة العمليات القتالية التي تضم جيجل، الشقفة، الطاهير والميلية إلى غاية قسنطينة. وواصل عمله الفدائي بصعوبة أمام قلة السلاح والتجنيد في الشهور الأولى من الثورة، التي انطلقت في المنطقة الثانية وعرفت في أيامها الأولى فاجعة فقدان قائدها ديدوش مراد الذي استشهد في جانفي ,1955 لتعود قيادة الكفاح إلى نائبه الشهيد يوسف زيغود الذي كان بن طوبال مساعده المباشر.
ولأن تنسيق العمل الثوري بعد الفاتح من نوفمبر بين مختلف المناطق كان منعدما، فإن قيادة الولاية الثانية اتخذت مسؤولياتها بالتحضير والتنظيم لما أسماه المؤرخون اليوم الانطلاق الفعلي بالمعنى الشعبي للثورة الجزائرية، أي هجومات الشمال القسنطيني يوم 20 أوت .1955 وكان المرحوم بن طوبال، إلى جانب الشهيد زيغود يوسف من مهندسي أحداث الـ20 أوت التي انتهت بنزيف ومجازر فرنسية (سقوط أزيد من 12 ألف شهيد وشهيدة أغلبهم من المدنيين العزل)، إلا أنها قضت على القوة الثالثة، أو الحل الثالث، وجذرت الصورة نهائيا ووضعتها في نقطة اللاعودة، باعتراف الحاكم العام جاك سوستال الذي صاح قائلا: “لم يبق إدماج.. إنها الحرب الكاملة”. وكانت هجومات الـ20 أوت التي هندس لها الشهيد زيغود مع بن طوبال، برغم عنف الهجوم، دليلا على ثقة الشعب الكبيرة وإيمانه بالكفاح، حيث خرجت الجماهير الجزائرية بالشمال القسنطيني مع أفراد جيش التحرير الوطني لمهاجمة مراكز استعمارية، ثكنات جندرمة وبوليس.. وعدة مناطق إستراتيجية بأسلحة بيضاء بسيطة وبضعة بنادق صيد في عز النهار، عكس الروايات والانتقادات التي ركزت على مقتل بضعة أوروبيين بطريقة بشعة في العالية، لصرف النظر عن التقتيل والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في قرى الشمال القسنطيني المنتفض من 21 إلى 26 أوت .1955 بن طوبال يرافع مع زيغود لهجومات الشمال القسنطيني في الصومام
لأن بن طوبال من المجاهدين القلائل جدا المتمسكين بالحقيقة التاريخية كما وقعت، بعيدا عن البروباغاندا ولغة الخشب، وهو ما ستثبته مذكراته التي نأمل أن ينشرها أهله في أقرب وقت دون أية مراقبة من أية جهة كانت، أجابنا بتلقائية وبصدق في لقاء أجريناه معه بمناسبة الذكرى الأربعين لانعقاد مؤتمر الصومام في أوت 1996 والمنشور بيومية “لوريزون”، مؤكدا أنه خلال مؤتمر الصومام كانت النقاشات حادة، إذ تعرضت هجومات الشمال القسنطيني إلى انتقاد عنيف من طرف عبان رمضان، وحتى العربي بن مهيدي، باعتبار أن أحداثا كتلك من شأنها أن تضعف الثورة وتزج بالمواطنين في مجازر الاستعمار، وهو التحليل الذي رفضه بن طوبال وزيغود، معلنين أن هذه هي الثورة الحقيقية، وأن للحرية ثمنا، وأن وحدات جيش التحرير، على قلتها، خرجت للمواجهة لإنقاذ الثورة من الخمول وفك الحصار عن الأوراس، المنطقة الأولى، وكذا توحيد كفاح الشعوب المغاربية، ببرمجة التوقيت بمناسبة الذكرى الثانية بالإطاحة ونفي سلطان المغرب محمد الخامس، وأملا في توسيع خط المواجهة، بضم أعضاء من جيش تحرير المغرب في الكفاح من أجل الاستقلال.
وواجه زيغود وبن طوبال حجج المؤتمرين، وعاتبا الشهيد بن مهيدي على موافقته على أطروحات عبان، باعتباره مسؤولا سابقا عليه. وقال بن طوبال: “قلنا لعبان: أنت لست مسؤولا عنا، وأحداث 20 أوت 1955 نتبناها ونعتز بها وسنكررها إذا تطلب الأمر”. وفي الوقت نفسه، عبر بن طوبال وزيغود خلال المؤتمر عن رفضهما وسخطهما عن مجزرة ولاد رياح بقرية افراتن، وطالبا إلى جانب عبان وبن مهيدي بمحاكمة المسؤولين عنها، بمن فيهم النقيب عميروش.
وبعيدا عن الرواية الأحادية عن اجتماع الصومام، فإن بن طوبال الذي كان أحد الستة المشاركين به الموقعين على المقررات، صرح أنه، مع زيغود، لم يكونا موافقين على بعض نقاط اللائحة، التي من بينها أولوية السياسي على العسكري، مؤكدا “كنا كلنا مناضلين في الثورة وحملنا السلاح، فلا وجود لعسكريين وسياسيين”.
مجزرة ملوزة وأولاد أورابح جرائم تبقى نقاطا سوداء في تاريخنا
مع ذكر ملوزة في لقائنا، أجاب بن طوبال مباشرة متأففا: “إنها جريمة فظيعة، وستبقى نقطة سوداء”. وفي محاولة منا التعرض للظروف المحيطة والعوامل المخففة، شدد بن طوبال على أنها جريمة بكل المعايير، ولا توجد أية تبريرات أو حجج، مضيفا أن المسؤول عنها هو محمدي السعيد، لأنه ـ حسب شهادة بن طوبال ـ كان يعتبر بني يلمان غير مسلمين، مضيفا أن الثورة كانت من أجل الاستقلال، من أجل رفع العلم، ولم تكن ثورة إسلامية (وهي العبارة التي حذفتها الجريدة في المقال المنشور، كما تم تعطيل نشر الجزء الثاني من المقابلة بسبب تدخل وزير الإعلام وقتها عام 1996 لمين بشيشي، الذي استفسر إدارة الجريدة عن اختيار بن طوبال بالذات وليس مجاهدا شاهدا آخر، فأجبناه ببساطة أن أعمال مؤتمر الصومام حضرها 6 قادة، توفي واستشهد خمسة منهم قبل تاريخ إجراء المقابلة، ولم يبق منهم غير بن طوبال).
وعن سؤالنا للسيد بن طوبال عن سر سكوت قادة الثورة ـ التي كان بن طوبال أحدهم ـ عما أسماه بالجريمة الفظيعة “ملوزة”، وعن سر عدم محاكمة محمدي السعيد، رغم أن قيادة الثورة حاكمت قياديين ومسؤولين وأصدرت بحقهم أحكاما بالإعدام ونفذتها عقابا لهم على أخطاء وجرائم أصغر بكثير من جريمة ملوزة، مستذكرين عباس لغرور وآخرين، كان جواب بن طوبال شجاعا وصريحا،لا تجميل ولا ماكياج عليه، كاشفا مصائب ونقائص الثورة والقبلية والجهوية اللتين شابتاها، حيث أجابنا قائلا: “لا تنس أن سي الناصر محمد السعيد محسوب على كريم بلقاسم. وإذا مسسنا سي ناصر، فإننا نمس كريم، وكنا لا نريد أن نحمل على عاتقنا عداوة منطقة القبائل بسبب ذلك”.
وعن مجزرة أخرى ضد المدنيين الجزائريين، وقعت في أفريل 1956 بقرية افراتن، وأدت إلى ذبح أكثر من ألف شخص، ولم تحظ بالتغطية الإعلامية نفسها التي حظيت بها ملوزة عاما بعد ذلك، صرح بن طوبال ـ ونعتقد أنها ستكون مذكورة في مذكراته ـ أنه غضب مع زيغود وأصرا على أن يحاكم مرتكبوها، وقالا إن دور جيش التحرير الوطني هو تجنيد الشعب وكسبه وليس قتله، ورفضا حججا حول العمالة المفترضة المقدمة، وكانا في هذه المسألة يحملان رأي بن مهيدي وعبان، لكن كريم تدخل، دفاعا عمّا ارتكبه المسؤولون في ولايته.
بعد المؤتمر، استشهد يوسف زيغود في 23 سبتمبر، عندما كان موجها إلى الولاية الأولى، ويقول بن طوبال في لقاء بقصر الثقافة في 23 سبتمبر 2001 إن زيغود رحمه الله عندما غادرهم قال لهم غاضبا: “لقد خسرنا الثورة وانتهى.. ولكن واصلوا الكفاح من أجل الاستقلال”.. وأضاف المرحوم بحضور مناضلين ومؤرخين: “لم نكن متفقين على مقررات مؤتمر الصومام”. واستذكر في تلك المناسبة عدة تفاصيل عن الشهيد زيغود يوسف، من بينها طرفة المعكرونة التي اشتهاها زيغود، فأحضرت إليه، فطلب من عائلة قروية أن تطبخها له، وكانت تلك الأسرة لا تعرف ما هي المعكرونة، فما كان منها إلا أن طبختها على البخار ووضعتها فوق الكسكسي المقدم إليه.. يومها ضحك زيغود، لكنه أكلها.
يومها، وجهنا مباشرة سؤالا إلى بن طوبال، وطلبنا منه أن يعطينا توضيحات أكثر حول ما يقصده الشهيد زيغود يوسف بعبارة “لقد خسرنا الثورة وانتهى.. ولكن واصلوا الكفاح من أجل الاستقلال”.. وأن يوضح لنا سبب عدم الاتفاق على نقاط في لوائح مؤتمر الصومام، وعن سبب توقيعه على أشياء لم يكن راضيا عنها، وعن طبيعة الخلافات التي كانت موجودة، فتدخل مجاهد آخر هو الفاضل حميمي، عندما همّ بن طوبال بالإجابة، لمنعه من ذلك، فأخذ الميكروفون عنه، وبدأ يصيح متشنجا: “لن يجيبك على هذا السؤال، ولن نقبل الأسئلة التي تشتت الوحدة الوطنية”، وواصل الصياح رغم تأكيدنا أن السؤال موجه إلى السيد بن طوبال، غير أن حميمي لم يتوقف عن ذلك حتى انفض اللقاء. وهذا المجاهد رحمه الله هو الذي نفذ المجزرة التي سميت “ليلة الصومام الحمراء”.
قضية لعموري.. بن طوبال: واجهت عبد الناصر بالأدلة، لكنه اكتفى بالقول إنكم تبالغون وعن قضية محاكمة وتنفيذ الإعدام في المناضلين لعموري، نواورة وعواشرية، فيما يسمى قضية “مؤامرة العقداء”، فإن لخضر بن
طوبال، أحد الباءات الثلاث (بن طوبال، كريم بلقاسم وعبد الحفيظ بوصوف) الذين هيمنوا على سلطة القرار إبان الثورة، له قناعة كبيرة، عكس الشاذلي بن جديد ومناضلين آخرين، مثل عمارة العسكري المعروف باسم “بوقلاز”، بأن هؤلاء نالوا الجزاء الذي يستحقون لأنهم تآمروا مع دولة أخرى (مصالح المخابرات المصرية) للإطاحة بالحكومة المؤقتة للثورة الجزائرية، وكانوا يخططون للقضاء على كريم بلقاسم، بوصوف وعليه هو شخصيا.
وفي شهادة بن طوبال، فإن الأمر لا يتوقف عند قضية خلافات، أو غضب ناجم عن قرارات التأديبية التي صدرت ضد مسؤولي القيادة العملياتية العسكرية، والتي قضت بكسر رتبة بعض العقداء، وتعيينهم في دول أخرى، بل أن الأمر يتعلق بخطة انقلاب حقيقي يقف خلفها جمال عبد الناصر، وتم التحضير لها من قبل رئيس المخابرات المصرية “فتحي الديب”، ما أدى بالحكومة المؤقتة إلى الاستنجاد بقوات الأمن التونسية التي حاصرت موقع اجتماع “الانقلابيين” لإفشال العملية. وأكد بن طوبال أنه ـ قبل التنفيذ ـ قد أخذ الأدلة، وذهب إلى مصر مع فرحات عباس، رئيس الحكومة المؤقتة، وواجه بها عبد الناصر الذي تهرّب في البداية، ثم اكتفى بالسكوت، وبالقول فقط إنها مبالغة.
بن طوبال بريء من دم عبان
ورغم الخلافات التي حدثت بين عبان وبن طوبال، فإن بن طوبال بريء من دم عبان رمضان، وهو ما أكده المرحوم بشجاعة وصدق ودون عقدة، وأكده أيضا مؤخرا المناضل مبروك بلحسين، رفيق أوعمران، وصاحب كتاب “رسائل القاهرة الجزائر” الذي اطلع على محضر محاكمة عبان، والذي يؤكد كتابة أن بن طوبال كان ضد التصفية الجسدية لعبان، وأنه فقط مع سجنه في تونس أو في المغرب. وأعلن بن طوبال أن عبان كان يقوم في تونس بعمل تفرقة في أوساط الجيش، وأنه حذره مرتين، لكن الرجل أيضا أصر على أنه كان مع سجنه ولم يكن متفقا مع الآخرين على سجنه وقتله، وهو ما حدث في تيطوان يوم 27 ديسمبر 1957 في ضيعة. وقال بن طوبال إنه كان من الضروري تحييده لكن ليس قتله. وعن سؤالنا عن سبب رفض بن طوبال تصفية عبان رمضان جسديا عكس الآخرين، قال: “كنت ضد تصرفاته ولكن ضد تصفيته أيضا، كنت مع سجنه ولكن دون قتله، لأن الجزائر المستقلة كانت بحاجة إليه”. ويعترف بن طوبال أنه شارك في استدراج عبان إلى المغرب، حيث ساهم في إقناعه بضرورة السفر للاجتماع بالملك لدراسة مشاكل خطيرة في القاعدة المغربية، واقتاده محمود الشريف وكريم بلقاسم إلى بوصوف.
وتؤكد الدلائل الأرشيفية والتحقيقات حول ملابسات اغتيال الشهيد عبان رمضان صدق شهادة بن طوبال.
بن طوبال، رحمه الله، كان يقول الحقيقة عارية، سواء كانت بسيطة أو خطيرة، فلا حكومة ولا هم يحزنون، الثورة ـ بورطاتها ـ كان يسيرها ثلاثة: هو وكريم وبوصوف، حيث أكد لنا أنه هو الذي فرض فرحات عباس كرئيس للحكومة المؤقتة، وقال لنا في اللقاء ذاته إن بوصوف وكريم “لم يكونا موافقين على ذلك، وأنا الذي فرضت عباس على كريم وبوصوف، لأني كنت مقتنعا أن فرنسا لن تتفاوض معنا نحن الراديكاليين، فوضعت عباس المعروف كمثقف والمشهور بالاعتدال”. وأضاف بن طوبال أن فرحات عباس لم يكن يقرر في الحقيقة، لكن تم وضعه “خضرة فوق عشا”، وأن “الحكومة المؤقتة كلها ديكور ما عدا الباءات الثلاثة”.
وعن المفارقة عن كيفية تفسير إقصاء بن طوبال والباءات الثلاثة الذين كانوا يسيرون الثورة مباشرة والانقلاب عليهم وعدم نيلهم زمام الحكم أثناء الاستقلال، قال بن طوبال بنوع من المرارة بعد تحليله الأوضاع في تلك الفترة: “أظن أن شبح عبان كان يطاردنا، ومنعنا من السلطة”.
بن طوبال.. الجنرال جياب وجرائم فرنسا
مديرا لمركب الحديد والصلب بعد الاستقلال ورئيسا لهيئة عربية للحديد والصلب، عاش بن طوبال شبه مهمش، ولكن جماهير المسؤولين الكبار والمجاهدين المغاوير، الحقيقيين والمزيفين الذين حضروا دفن بن طوبال وأعلنوا تعازيهم، لم يكونوا يزورون الرجل منذ لزومه فراش المرض أزيد من 10 سنوات، عدا قلة تعد على أصابع اليد الواحدة، وهم أيضا من الشخصيات والمجاهدين المهمشين. ورغم تقلده رتبة كولونيل الولاية الثانية بعد استشهاد زيغود، ورغم مساره الطويل ومسؤولياته في الثورة، يبقى بن طوبال رجلا سياسيا ومناضلا ذكيا، وطرائف عديدة في حياته تؤكد ذلك، ومن بينها لقاؤه بقاهر الجيش الفرنسي وجنرالاته في حوض ديان بيان فو الفيتنامية، الجنرال جياب (صاحب المقولة الشهيرة: “الاستعمار هو ذلك التلميذ الغبي الذي لا يحفظ الدرس”) عند زيارته الجزائر، إذ بعد جلسة دبلوماسية رسمية، قال بن طوبال لجياب: “إسمح لي بهذا النقد.. أنتم قمتم بمعركة عظيمة وثورة عظيمة، لكنكم أخطأتم في حقنا”، فاستفسره جياب متسائلا عن طبيعة الخطإ، فأجابه بن طوبال بعفوية الفلاح الجزائري: “إنكم تغلبتم عليهم حقا في ديان بيان فو، لكنكم أخليتم سبيل الضباط والجنود الفرنسيين ليأتوا عندنا ويقوموا بالمنكرات”.
وتؤكد دراسات حديثة، حول مدرسة الحرب الشاملة، أن الحرب الثورية التي خلقها الفرنسيون في الهند الصينية وطبقوها في الجزائر، بجوانبها النفسية وتسميمها، لم تتوقف عن الجزائر بل تم تصديرها وتدريسها في أمريكا اللاتينية: الشيلي والأرجنتين، وفتكت بعشرات الآلاف من المعارضين السياسيين، ثم انتقلت المدرسة نفسها بتعاليم منظريها، “روجي ترانكيي” و”آشروي”، وطبقت بفضل خبرائها المجرمين نظريات الحرب الشاكلة في رواندا، لتنتهي في العراق، حيث أصبح جنرالات فرنسيون من مختصي الهند الصينية والجزائر يستدعون كخبراء لدى الأمريكيين.
المفاوضات مع فرنسا وخروتشوف
شارك لخضر بن طوبال بحنكته وتجربته السياسية في مفاوضات ليروس وإيفيان الثانية، وأظهر قدرات تفاوضية كبيرة دون تفريط في مظاهر السيادة والاستقلال الوطني، بعد أن ترك وزارة الداخلية ليتولى وزارة بدون حقيبة في الحكومة المؤقتة الأخيرة. وعندما رافق بن طوبال الرئيس فرحات عباس في جولاته التي قادته إلى مجموعة من الدول الاشتراكية، كان للمرحوم وهو يقف أمام رئيس الاتحاد السوفياتي نيكيتا خروتشوف موقفا و”خرجة” جديرة بأن تدرس في معاهد الدبلوماسية والحنكة السياسية، فقد كان الرئيس السوفياتي يتعامل بنوع من التعالي والشعور بالعظمة، وقد استاء بن طوبال كثيرا من ذلك، كما استاء من تصرفات فرحات عباس البرجوازية التي تتبنى التقاليد الأوروبية في اللباقة المبالغ فيها، فما كان منه إلا أن خاطب الرئيس السوفياتي بهدوء وقال له: “إنني لست سوى فلاح من الجزائر، ولم أظن يوما أني سأقف بين يدي الرجل العظيم رئيس الاتحاد السوفياتي، ولو أن شخصا أخبرني بذلك من قبل، ما صدقت، ولكني الآن أمامك، فلا تكلمني بصفتي شخصا، بل بصفتي أمثل شعبي المكافح كله”.
وفي الفاتح من نوفمبر 2001 أصر المرحوم بن طوبال، رغم المرض، على الحضور والمشاركة في دورة ملاكمة نظمتها جمعية ببوفاريك تشريفا للشهيد سويداني بوجمعة، واندهش الحاضرون الذين اعتقدوا أن بن طوبال سوف لن يلبي الدعوة، إلا أنه فاجأ الجميع بقدومه، وعندما قيل له: “لقد أتعبت نفسك من أجل صديقك الشهيد سويداني بوجمعة”، رد بابتسامة قائلا: “أنا أيضا لدي نصيب وأحقية في بوفاريك، فقد كان أخي الأصغر سعيد بن طوبال من النواة الأولى، وهو الذي فتح باب الثكنة من الداخل، ثم فر مع الدفعة الأولى”.
للتذكير، فإن الشقيق الأصغر للخضر بن طوبال كان في الجيش الفرنسي عشية الفاتح من نوفمبر، وقبلها بأيام، توجه إلى سويداني وشعيب وحلف على المصحف الشريف على البقاء على العهد، وبأن يشارك معهم من داخل الثورة، حيث مكن جماعة أوعمران وسويداني من الظفر بأسلحة. ومن أطرف ما روي عن الفقيد لخضر بن طوبال أن صحافيا غربيا أجرى حوارا مع رئيس الحكومة المؤقتة الجزائرية فرحات عباس، وكان لخضر بن طوبال يجلس إلى جانب فرحات طيلة وقت المقابلة. فلما عاد إلى بلده، كتب في صحيفته أن مسؤولين صينيين يقدمون يد العون إلى الجزائر، بدليل أن رئيس الحكومة المؤقتة الجزائرية كان يجالس صينيا، ولم يكن ذلك الصيني سوى بن طوبال الذي تشبه عيناه عيون الجنس الأصفر في أقصى شرق آسيا.
لقد انتقل إلى جوار ربه، وفي مقبرة العالية، بمربع الشهداء، بقبوره المليئة والشاغرة، ووري جثمان ابن ميلة الوطني: “سليمان بن طوبال”، بعد أن وهب شبابه من أجل استقلال البلاد، وترك بعد الاستقلال ـ رغم التهميش ـ منهجا ومخرجا يبشر الجزائر خيرا، إذا اتبع وكتب التاريخ بمره وحلوه، بشجاعة وصدق بن طوبال، وعدم الاستمرار في البروباغاندا وتزييف التاريخ في الروايات الرسمية والكتب المدرسية، وكم هو مؤسف أن تكتب كتب التاريخ المقررة في النهائي وفي السنوات الأخرى لمنظومة بن بوزيد أن مؤتمر الصومام انعقد في القبائل الكبرى، وأن المؤتمر ذاته عين الحواس على الولاية السادسة، وإنه خلق هيئة اسمها المؤتمر الوطني وترهات أخرى من هذا القبيل، ليضيف لنا موظف لا يصححه له أحد باسم رئيس الجمهورية في رسالة التعزية أن بن طوبال تعرض للسجون والتعذيب.. سي لخضر على عكس غيره لم يكتف بقول الحقيقة والإدلاء بالشهادة لكل من يطلبها، بل تعدى ذلك، وخوفا منه على تاريخ البلاد ومستقبل هذه الأمة فكتب تاريخ كفاحه وشهادته في مذكرات، كان من المفروض أن يقرأها الشعب الجزائري ويعلق عليها أثناء حياته. واليوم، يتفق الجميع، مؤرخين وباحثين، أن المرحوم بن طوبال أسدى جميلا كبيرا لوطنه بتركه مذكرات.
وعندما سألنا المرحوم بن طوبال في بيته يوم 16 أوت 1996 عن سبب عدم صدورها، أخبرنا المرحوم أن اللذين أشرفا على نسخ مذكراته كان منهما جمال دحو الذي أراد أن يمضي المذكرات باسمه، وقال لنا المرحوم إنه أخذ النص وقال: “هذه حياتي وهذا كلامي.. أتركوه وامضوا ما شئتم”. ومنذ ذلك اليوم والبحث مستمر عن سبب عدم صدور مذكرات بن طوبال، وهناك عدة روايات مفادها أن أفرادا من العائلة أرادوا إصدارها في الخارج، وروايات أخرى تذهب إلى عدم وجود دور نشر قبلت بها، أو تكون قد تلقت ضغطا ما لعدم قبولها، ويبقى السؤال حول سبب تأخر نشر مذكرات بن طوبال الهامة جدا، والتي يجب أن تصبح اليوم مطلبا شعبيا، ومطالبة وزراء بنشر المذكرات أمر إيجابي، وكلمة السيد عبد الحميد مهري بأن أحسن تكريم وتشريف من المرحوم سليمان بن طوبال هو نشر مذكراته، كرأي سليم.؟
قراءة : منتصر أوبترون
مذكرات لخضر بن طوبال رمز من رموز الثورة
